يافا
مدينة
الجمال
قدر لي أن أزورها قبل أكثر من عشر سنوات وقضاء يوم
وأطراف من الليل في أرجائها ،بصحبة أصدقاء الدراسة في جامعة القدس أبوديس حفظهم الله.
بدئت الرحلة في مدينة يافا، بالسلام والتحية على
شاطئها الفسيح، وبحرها العميق ،وأمواجها العالية ، وهي ترحب بأجسامنا وتلامس
أطرافنا؛ لنتعانق عناق الإخوة المشتاقين بعد طول غياب .
وتركنا أنفسنا ومشاعرنا تتحدث ،وكلما حاول جسدنا الرجوع
إلى الشاطئ؛ ازداد استمساك الموج بأهله وأحبته، لتبدأ معانقة جديد ،وتبدأ المشاعر
القديمة تتدفق ، والجسم يطفو فوق الماء راغبا بملامسة كل ماء البحر ،ومعانقة
كل أموجه العالية .وكيف لا تشتاق الأمواج لقبطانها والشواطئ لأهلها.
وبعد فترة إذا برمال الشاطئ تصرخ بأعلى صوتها، تنثر
الرمال ،وتحاول تحرك الصخور، راغباً بالعناق والتحية، فتذكرت حقها وواجبي نحوها،
فودعت الموج ، وذهبت نحو الشاطئ ،لأصلي صلاة الضحى، واضع على الرمل جبهتي ساجدا
لله ،مُقّبلاً الرمل ، تاركاً وجنتي تطرح السلام وتتمرغ بالرمال.
وبعد انتهاء الصلاة والتسليم، التفت نحو الشرق الشمالي
،وإذا المسجد تشرق أنواره ، وسط البنايات الشاهقة - مسجد حسن بيك- يغمر المكان
بزرقة لونه ، وسِعة ساحاته ، وكبر قبابه وتوزيع مآذنه، فطرت إليه شوقاً ؛كمن
يرى الماء في الصحراء القاحلة ،فوقفت على بابه ،وإذا مكتوب ممنوع الدخول بثلاث
لغات، قرأت وفهمت لغتين والثالثة لا شئن لي بها.
فقلت في نفسي إذا كان الدخول ممنوع فلا بد من الزيارة من
الخارج و السير بجانب حجارة السور ؛ لتلمس يدي نقشها، وترى عيّنيّا زرقة لونها،
وسرنا مع السور و المسجد يصرخ مرحبا ،والحجر يئن ،والنخيل يتمايل ،والنوافذ تشكو
الظلام ،والمآذن تنوح حالها ،و القباب تعلن عن نفسها في وضح النهار.
الكل يلوم الباب، ويتهمه بالتقصير، ويحمله إثم منع الأحبة من
اللقاء ، فقلت في نفسي رغم كل هذا الغضب على الباب لابد من الاستماع له ،
فخاطبته غاضباً، بعد السلام والتحية، مالك تقف حائلا بين الأحبة تمنع اللقاء،
وتفرق الأيادي ،وتباعد المسافات.
أتمنع طرح السلام والصلاة والركوع والسجود في محارب مسجدك
،وبدء العتاب كأنه سيل عارم ، والعيون تذرف الدم من حمرتها، وإذا الباب ينهمر
باكيا ! ودموع تسيل لتبتل الأرض من كثرتها! فطلبت منه الهدوء لنعرف القصة ، ونترك
العتاب واللوم .
فسألته ما حجتك ! ما دهاك ! تكلم ! انطق ! دافع ! تحدت !
ألست من وجد ليكون مرحبا بالزائرين؟! الكل يتهمك ويلومك . فإذا به يقول، السبب
المفتاح، لست أنا؛ فسأل عن المفتاح إن شئت
الحقيقة ؟ فقلت أين هو ؟!
فقال : في جيب إمام المسجد المهجّر في مخيم العائدين-
عين الحلوة بلبنان - ؛فسئلت لم يترك مفتاح أخر ،وهل يعقل أن هذا المسجد الكبير له
مفتاح واحد فقط ؟! فقال :لا ، بل يوجد مفتاح أخر قَبضت يد المؤذن عليه عندما
استشهد؛ فلم يستطع احد نزعه من يده ؛فدفن معه في مقبرة الشهداء ،فقلت ألا يوجد
مفتاح مع أهل المدينة؟! قال :والعين تدمع، أين هم ؟! لقد تبدلت الغزلان
بالقرود، وقمحية الوجوه، بسواد الأثيوبيين ، و أجلف اليهود الغربيين، و حقد
الشرقيين .
أما الأهل والأحبة خرجوا ومعهم المفاتيح ، وانأ لا زلت على
موعد مع دقات أيديهم ،و فرزات مفاتيحهم ، لأفتح دقاتي مرحبا بالزائرين .
قلت له أنا من ذريتهم، ومن أهل دينهم، ومن نسل أبوهم
ادم، ومن أتباع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فسمح لي بالدخول ، فاعتذر بكل لطف
لا يا أخي، دفاتي لا تتحرك و قفل بابي لا يفتح إلا بمفتاح الإمام فذهب إليه
،وعودوا جميعا، فانا بانتظاركم من زمن بعيد ،واشتاق لتدفعكم على بابي، فلن أفتح دفاتي إلا بكم جميعا
. ونحن على موعد. فقبلت الاعتذار.
ثم توجهت نحو الجنوب ،وإذا بمسجد البحر، يغرس نفسه في
وسط الماء ،ففرحت ونسيت عتبي على مسجد حسن بيك ، فسرت إليه مسرعا نحو الباب ، وإذا
به مغلق فازداد غضبي على الأبواب، وقلت في نفس الكثير بشأنها ونعتّها بكل ما خطر
ببالي من كلام ، وإذا به يقول لا تلموني، وتزيد ألمي وتثخن جروحي، وتلهب دمعي ،
يكفي ما بي .و إذا أردت الجواب توجه إلى مسجد يافا الكبير ، فهو جهة الشرق الجنوبي
لا يبعد كثيرا.
فسرت نحوه وإذا بي أمر من منتزه العروسة وإذا بالياسمين الأبيض
ينشر عطره ،وتتدلى أهدابه ، والأغصان تحمل أزهار البرتقال وأوراقه، والريحان يخضّر
كل ما تراه عينك، فقلت لنسير بين هذه الأشجار، و نشتم هذا النسيم و نسمع أهازيج
العصافير وهي تغرد إلى الشاطئ تروي عطشها، ثم تعود إلى المتنزه تلتقط طعامها. فدخل
السرور قلبي و بدأت نفسي تهدأ وانشرحت سريرتي .فحمدت الله كثيرا على ذلك.
لكن شهر العسل لم يدم طويلا ، ولحظات الراحة و الصفاء
عمرها قصير في بلاد البرتقال اليافاوي ، وإذا بأسراب الجراد تسرح وتمرح، تأكل
وتشرب، تضحك وترقص، تفعل كل قبيح بلا أدنى حد من الأخلاق والاحتشام، فصرخت في وجه الأشجار
والأزهار، كيف بك تظلي هؤلاء الأوباش؟ ثم
نظرت إلى الأرض غاضبا ! كيف تكوني لهؤلاء بساط؟ ونظرت إلى السماء، كيف تكوني لهم
غطاء ؟ فلم انتظر الإجابة و تركت المكان .
ثم توجهت إلى مسجد يافا الكبير ،فإذا الباب مفتوح !
ففرحت قبل أن أصل إليه ،وتهيئة وبدأت ارتب أفكاري و، انتقي كلمات التحية والتقدير
لباب يفتح دفاته مرحبا بالمصلين، فبلغته كل ما في صدر من محبة وشكر.
ثم دخلت المسجد فصليت في محرابه تحية المسجد والظهر
والعصر جمعا وقصرا ، ثم التفت إلى جهة اليمين وإذا منبر يشمخ وسط المسجد، فترقيته
حتى آخره، ووقفة على أعلاه ،أتفقد أجزاء المسجد وأحدق في نوافذه الملونة بالزجاج
والزخارف ،وفنائه الواسع ، سقفه المرتفع ، فقلت لابد لي من كلمة أمام كل هذا.
فتهيأت للموعظة وسرح بي الخيال وكأني أتحدث في مسجد
ازدحم بزواره ، فلم تتسع ساحاته وأروقة، لا تجد فيها مكان فارغ لموضع قدم ، وفعلا
جاش في خاطري الكثير، وبداء لساني بالحديث وإذا بعيني تبصر الحقيقة المرة، وإذا
المسجد خالي من أهله، فتوجهت إلى المنبر أين
أصدقائك؟! والى المحراب أين اهلك؟! فإذا الجواب .
الأهل تفرقوا في مخيمات العودة ومقابر الشهداء ! فسئلت
مستنكرا لماذا تفتح أبوابك إذا؟! لمن ؟! فأجاب لمن بقية من أهل وأحبة ممن نجو من مذابح الأعداء أو لزائر كريم ؟ فقلت
له وهل تفتح بقية الأبواب ،فقال : لقد سألت عن ألم وجرح كبير، سر جهة الشرق
تجد الإجابة .
سرت وإذا الباب مفتوح، والمكان معمور ،فدخلت وإذا
بداخله مطعم يأكل فيه الأوباش لحم الخنزير، ويشربون الخمور، فتركت المكان ،واتجهت
نحو الطابق الثاني لمكتبة المسجد حسبما
قراءة، وصعدت الدرج وإذا بالكتب تبدلت بأجساد الغانيات والراقصات وبنات الليل وأهل
الرذيلة، يفعلون كل قبح في مسجد يافا
الكبير، فتركت المكان أجر أذيال الخيبة والألم ، فقلت في نفسي ليت أبوابك مغلق
مثل أبواب المساجد الأخرى.
فتوجهت نحو السوق وإذا الدكاكين مغلق والمفتوح منها يتاجر
فيه غرباء ،والبيوت مهجور والمسكون منها يسكنه دخلاء، والشوارع فارغة
ومن يسير عليها هم البغاء، والشجر يثمر ويأكله الأعداء،........
في أخر الطرق وعند باب الحافة نظرت نظرة الوداع ،وقلت
كلمة الفراق لكي الله يا يافا استودع الله
،شجرك وحجرك ،بقية اهلك ،مسجدك، بحرك ،رمالك، شمسك، قمرك، ليلك ،نهارك ،منابرك
،مآذنك، إدراجك أزقتك ،كل ما في كي .
لنا فيك
لقاء، عسى أن يكون قريبا
عمار أبو زنيد
أبو حذيفة
9/3/2013